العدوان الصامت.. أزمة المياه في غزة بين العقاب الجماعي وجرائم الحرب
العدوان الصامت.. أزمة المياه في غزة بين العقاب الجماعي وجرائم الحرب
"في قطاع غزة، لا يبحث الأطفال عن ألعابهم أو أقلامهم، بل عن الماء. لا يذهبون إلى المدرسة، بل يدفعون عربات أملاً في جلب ما يخفف من عطشهم"، بهذه الكلمات لخصت وكالة "الأونروا" في صرخة أممية واقعًا مريرًا يعيشه أكثر من مليوني فلسطيني منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، والذي دمّر نحو 80% من البنية التحتية لقطاع المياه في غزة.
وفي مواجهة هذا الواقع الإنساني القاسي، تتواصل جهود إماراتية رسمية منذ أكثر من عام، بهدف تخفيف حدة الأزمة، وشملت المبادرات حفر آبار في مناطق النزوح، وتسيير صهاريج مياه للنازحين، وتوزيع مياه صالحة للشرب على النقاط الطبية.
كما دشّنت الإمارات ست محطات لتحلية المياه في مدينة العريش المصرية يستفيد منها أكثر من مليون نسمة داخل القطاع، إلى جانب تنفيذ مشاريع لإصلاح خطوط المياه والآبار المتضررة في خانيونس وشمال غزة.
عقاب جماعي
وفي تصريحات لـ"جسور بوست"، عد خبير فلسطيني في القانون الدولي ما تقوم به إسرائيل "عقاباً جماعياً بامتياز"، في حين أكد وزير سابق لسلطة المياه الفلسطينية أن سكان غزة يواجهون كارثة إنسانية حقيقية، معربًا عن "تقديره العالي للتدخل الإماراتي"، داعياً إلى تعزيز الدعم العربي والدولي.
وبدأت أزمة المياه تتفاقم مع إعلان إسرائيل الحرب في أكتوبر 2023، وقرارها بقطع إمدادات الكهرباء والمياه وإغلاق كافة المعابر، وأوقفت شركة "ميكوروت" الإسرائيلية إمدادات المياه إلى العديد من مناطق القطاع، لا سيما الوسطى وشرق مدينتي رفح وخان يونس.
وأعلنت سلطة المياه الفلسطينية لاحقاً عن أزمة حادة، نتيجة توقف تشغيل الآبار الجوفية بسبب انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود اللازم لتشغيل سيارات نقل المياه.
وأخيراً حذرت بلدية غزة من أن تعطل خط مياه "ميكوروت" في حي الشجاعية يزيد من أزمة العطش في المدينة، وأضافت أن إسرائيل أوقفت المياه القادمة من "ميكوروت"، والتي كانت تمثل 70% من إمدادات المياه، فيما تعرضت محطة "غباين" لتحلية المياه شرق غزة لقصف مباشر.
تحذيرات أممية
وفي 9 أبريل الجاري، أعادت "الأونروا" تسليط الضوء على معاناة الأطفال، محذرة من ندرة المياه في منشور عبر فيسبوك، كما قالت بولا نافارو، منسقة المياه والصرف الصحي في "أطباء بلا حدود"، إن السكان "يضطرون إلى شرب مياه غير صالحة"، مشيرة إلى أن البعض لا يجد مياهًا على الإطلاق.
وأكدت كيارا لودي، منسقة الفريق الطبي في المنظمة، أن "عدم القدرة على الاستحمام أدى إلى تفشي أمراض جلدية بين الأطفال"، وحذرت من أن "نفاد الوقود قد يؤدي إلى انهيار كامل في نظام المياه".
وفي 24 مارس، وجه زياد الميمي، رئيس سلطة المياه الفلسطينية، نداءً عاجلاً إلى المقررين الأمميين، متهماً إسرائيل باستخدام "التجويع والتعطيش كسلاح حرب ضمن سياسة إبادة جماعية".
وأشار الميمي إلى أن أكثر من 85% من مرافق المياه والصرف الصحي خرجت عن الخدمة كلياً أو جزئياً، فيما انخفضت كميات المياه المتاحة بنسبة 70-80%، وأصبح الفرد يحصل على ما لا يتجاوز 3-5 لترات من المياه يوميًا، مقارنة بالحد الأدنى الذي حددته منظمة الصحة العالمية (15 لترا).
وتضطر غالبية سكان غزة إلى اللجوء لمصادر مياه غير صالحة، مثل الآبار الزراعية المالحة، ما يعرضهم لأخطار صحية جسيمة، كما أدى نقص المياه إلى تفاقم مشكلات النظافة الشخصية، وانتشار الأمراض، ولا سيما بين الأطفال والنساء وكبار السن، فضلًا عن نقص المياه اللازمة للزراعة والطهي.
واختتم الميمي ندائه بالتأكيد على "تحوّل الماء إلى أزمة حياة يومية"، في ظل اضطرار النساء لإعداد الطعام بكميات مياه لا تكفي حتى للشرب، ناهيك عن تصريف أكثر من 130 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي يوميًا في البحر الأبيض المتوسط.
جهود إماراتية
في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة التي يعيشها سكان قطاع غزة، خاصة في قطاع المياه، تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة جهودها الإغاثية، ضمن عملية "الفارس الشهم 3" الإنسانية، التي أطلقها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، لدعم الفلسطينيين.
ومنذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، وضعت الإمارات أزمة المياه في صلب تدخلها الإنساني، فأطلقت مشاريع متعددة لإصلاح خطوط وشبكات المياه في محافظتي خانيونس وشمال غزة، وزوّدت المناطق المنكوبة بخزانات مياه، وسيرت صهاريج لتوزيع المياه الصالحة للشرب على النازحين في المخيمات، خاصة في ظل النقص الحاد الذي يهدد حياة مئات الآلاف.
وفي خطوة عاجلة، قامت “الفارس الشهم 3” بتسيير صهاريج مياه إلى مراكز الإيواء في منطقة "مواصي خان يونس"، لتلبية احتياجات آلاف النازحين الذين يواجهون شحًا حادًا في المياه والغذاء.
كما أطلقت العملية مبادرة طارئة لحفر آبار مياه في مناطق النزوح جنوب القطاع، في ظل توقف محطات الضخ والآبار عن العمل نتيجة القصف وانقطاع الكهرباء ونفاد الوقود.
ورغم التحديات اللوجستية وإغلاق المعابر، نجحت فرق المتطوعين في تنفيذ تجربة أولية لحفر بئر داخل أحد مخيمات النزوح باستخدام وسائل بدائية، وأسفرت التجربة عن استخراج المياه، ما يشجع على تكرارها في مواقع أخرى حال ثبوت فاعليتها واستدامتها.
ومن المتوقع، في حال توسيع نطاق هذا المشروع، أن يستفيد نحو 150 ألف أسرة نازحة في أكثر من 300 مخيم منتشر في مناطق "المواصي" جنوب غزة.
مشروعات نوعية
وفي إطار جهودها طويلة الأمد، دشّنت دولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 2024، ست محطات لتحلية المياه في مدينة العريش المصرية، يستفيد منها أكثر من مليون نسمة داخل قطاع غزة. كما شملت المبادرات توزيع المياه الصالحة للشرب على النقاط الطبية ومناطق تجمع النازحين في خان يونس، وتوفير خزانات مياه لدعم استمرارية الخدمات الطبية في ظل غياب مصادر المياه المنتظمة.
ولم تغفل الإمارات الجانب المؤسسي، إذ وقّعت في 30 نوفمبر 2024 مذكرة تفاهم مع بلدية دير البلح لتنفيذ مشروع لصيانة وتشغيل شبكات وخطوط المياه والآبار المتضررة، وذلك لضمان وصول المياه إلى المناطق السكنية ومراكز النزوح التي تعاني من تفاقم غير مسبوق في الأزمة.
وامتدت التدخلات الإماراتية إلى تنفيذ مشاريع متعددة لصيانة وتمديد خطوط المياه في محافظات غزة، بما في ذلك شمال القطاع وخان يونس، ضمن مبادرات إنسانية تهدف إلى تعزيز صمود السكان. كما نفذت عملية "الفارس الشهم 3" في 14 ديسمبر 2024 مشروعًا خاصًا بدعم الهيئات المحلية في قطاع غزة بصهاريج مخصصة للمياه الصالحة للشرب وأخرى لمياه الصرف الصحي، لتحسين مستوى الخدمات المقدمة للسكان.
وأكدت فرق "الفارس الشهم 3" التزامها بمواصلة الجهود رغم التحديات الأمنية واللوجستية، واستعدادها لتوسيع عمليات الحفر والتوزيع في حال توفر الظروف المناسبة.
ويعد هذا التحرك الإنساني من أبرز الاستجابات الفاعلة على الأرض، في ظل تفاقم أزمة المياه التي تهدد حياة أكثر من نصف مليون نازح، وتعرض الأطفال وكبار السن والمرضى لمخاطر صحية جمة نتيجة العطش واستخدام المياه الملوثة.
جرائم حرب
بدوره أكد الدكتور أمجد شهاب، أستاذ القانون الدولي الفلسطيني، أن ممارسات إسرائيل في قطاع المياه داخل غزة تندرج ضمن سياسات العقاب الجماعي، وهو ما يعد جريمة حرب وفق القانون الدولي.
وقال شهاب في تصريح لـ"جسور بوست": "قطع المياه عن السكان الأبرياء هو محاولة واضحة للقتل الجماعي، وهو فعل غير قانوني وغير أخلاقي بأي مقياس".
وأضاف أن قضية التعطيش كانت حاضرة بوضوح في دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، مشيرًا إلى أن هناك مسؤولين إسرائيليين أعلنوا صراحة عن قطع المياه كجزء من الحرب المستمرة ضد غزة، والتي وصفها بـ"حرب الإبادة الجماعية".
وشدد على ضرورة تحرك عربي ودولي واسع للضغط من أجل وقف هذه الجرائم، موضحًا أن الوضع الإنساني في غزة كارثي، ولم يعد الخطر مقتصرًا على أزمة المياه فقط، بل يمتد إلى كافة جوانب الحياة في القطاع المنكوب.
سلاح التعطيش والتجويع
من جانبه، قال الدكتور شداد العتيلي، وزير سلطة المياه الفلسطينية السابق ومسؤول ملف المياه في دائرة المفاوضات بمنظمة التحرير الفلسطينية، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، إن ما يجري في غزة هو "حرب إبادة إسرائيلية تُنفذ أمام مرأى ومسمع من العالم".
وأوضح أن سياسات إسرائيل لا تقتصر على القتل عبر الأسلحة والقصف الجوي، بل تشمل "استخدام سلاح العطش والتجويع"، من خلال تدمير المستشفيات، واستهداف الطواقم الطبية ومقار الأمم المتحدة، وإغلاق المعابر لزيادة الحصار المائي والغذائي بشكل منهجي يومي.
وتابع العتيلي: "حتى قبل الحرب، كان واقع المياه في غزة كارثيًا، حيث إن أغلب المياه غير صالحة للاستهلاك البشري. واليوم، وبعد تدمير البنية التحتية، تخيّلوا كيف أصبح الوضع مع إعلان إسرائيل رسميًا إغلاق أنابيب المياه عن 2.4 مليون مواطن في القطاع".
إشادة بجهود الإمارات الإغاثية
وفي ظل هذا الوضع الكارثي، أشاد العتيلي بالتحركات الإغاثية، مؤكدًا أن "ما تقوم به الإمارات، وخاصة من خلال عملية "الفارس الشهم 3"، يُعد نموذجًا مشرفًا للتدخل الإنساني في وقت حرج".
وأضاف: "نقدّر عاليًا الجهود الإماراتية، ولا سيما تركيزها على قطاع المياه والصرف الصحي الذي دُمرت أكثر من 80% من بنيته التحتية في غزة. مشاريع حفر الآبار، وتوفير صهاريج المياه، وإصلاح الشبكات، كلها تمثل شريان حياة في ظل أزمة نزوح حادة وكارثة إنسانية متفاقمة".
وأكد العتيلي أن "أي تدخل عربي أو دولي في قطاع المياه محل تقدير كبير، لكن الدور الإماراتي كان الأبرز والأكثر فاعلية حتى الآن، سواء من حيث عدد المشاريع أو نوعيتها"، مشيرًا إلى أن تحلية المياه وتوزيعها على النازحين أنقذ الآلاف من خطر العطش.